وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس ، نصره الله، رسالة سامية الى المشاركين في المنتدى الاقتصادي العالمي لشمال إفريقيا والشرق الأوسط الذي افتتحت أشغاله بمراكش تحت شعار "الأهداف والقدرات والازدهار".
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها السيد صلاح الدين مزوار وزير الإقتصاد والمالية:
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
أصحاب السعادة والمعالي،
حضرات السيدات والسادة،
يطيب لنا أن نعبر ع`ن عميق سرورنا، لاستضافة المغرب للمنتدى الاقتصادي العالمي لشمال إفريقيا والشرق الأوسط، وعن اعتزازنا بمشاركة نخبة من خيرة الخبراء الاقتصاديين فيه.
إن هذا الملتقى الهام يشكل بحق، حلقة أساسية في مسار البحث الدؤوب والجاد، عن السبل المثلى للإجابة عن إشكالات الوضعية الحالية، التي يمر منها العالم عموما، ومنطقتنا على وجه الخصوص.
ذلكم أنكم تلتئمون في لحظة دقيقة، تتأرجح فيها مؤشرات تعافي الوضعية الاقتصادية العالمية، بين تقدم وتراجع. وهو ما يضع أشغال منتداكم على محك المقاربة الدقيقة للإشكالات المتشعبة المطروحة، وسبل معالجتها بتكاثف الجهود، وتلاقح الأفكار.
لقد أصبح واضحا أن الانتعاش الاقتصادي، المسجل في الآونة الأخيرة، لم يبلغ المستوى الذي يؤهله لحل آفة البطالة، فيما ظلت تعيقه العديد من الصعوبات، لإيجاد الحلول الشاملة للخروج من الأزمة. فكلما ساد الاعتقاد بنجاعة الحلول المتخذة، كلما برزت إلى الواجهة إشكالات أخرى أكثر تعقيدا.
ومن هنا، فإن العبرة الأساسية التي ينبغي استخلاصها من تفاعلات السنوات الأخيرة، هي أن الأزمة العالمية تتجاوز الاقتصادي والمالي والاجتماعي، إلى مستويات أخرى أكثر ارتباطا بمرتكزات نموذج النمو السائد على المستوى العالمي ; بل وتسائل في الصميم بعده الحضاري، وتضع على المحك حكامته الجيدة، وتهدد عمقه الديمقراطي.
وهو ما يجعل العالم اليوم أمام منعطف تاريخي حاسم ; مما يضفي على هذا الملتقى الخاص بمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، أهمية خاصة، ويلقي عليه مسؤولية جسيمة، في التجاوب م`ع انتظارات شعوبنا.
فمنطقتنا لها من الطاقات، ما يؤهلها للعب دور أساسي، في رسم استراتيجيات الخروج من الأزمة، والمساهمة الفعالة في النقاش حول بلورة نموذج عالمي تنموي جديد، يضع كرامة الإنسان في صلب اهتماماته.
كما أن فضاءنا الجهوي يعتبر من المناطق التي استطاعت التقدم بوتيرة متسارعة، على طريق تجاوز تداعيات الأزمة المالية والاقتصادية العالمية ; حيث من المنتظر أن تسجل مستوى مشجعا من النمو، في نهاية هذه السنة، مع آفاق لا تقل تفاؤلا بالنسبة للسنة المقبلة.
ومن البديهي أن لهذه المعطيات أثرها الإيجابي في دعم الانتعاش العالمي، وفي بناء عالم الغد، عالم ما بعد الأزمة ; اعتبارا لما لهذه المنطقة من أهمية خاصة، بل واستثنائية، بالنسبة للاقتصاد العالمي.
ذلك أن منطقتنا تزخر بثروات طبيعية هائلة ; إذ تعتبر مصدرا رئيسيا للطاقة، المعدنية منها والمتجددة. كما أنها تتوفر على مؤهلات بشرية هامة. فهي تمثل خمسة في المائة من الساكنة العالمية، وتتميز بتركيبة ديموغرافية شابة.
ومما يزيد من أهمية المنطقة، موقعها الجيو-سياسي الاستثنائي، الذي يؤهلها للقيام بدور أساسي في تحريك عجلة التبادل والتعاون. فهي تعد ملتقى وجسرا للتواصل بين دينامية الاقتصاديات الآسيوية، وفرص الشراكة الأورو-متوسطية المتاحة، والقدرات التنموية الهامة للقارة الإفريقية.
غير أن النهوض بهذا الدور، يبقى رهينا بمدى نجاعة اختياراتها، سواء تعلق الأمر بكل بلد عل`ى حدة، أو بدول المنطقة مجتمعة.
وغير خاف أن منطقتنا تواجه اليوم تحديي`ن رئيسيين:
+ ويتمثل الأول في دعم النمو، وتسريع وتيرته، لتحقيق تنافسية أقوى، وجاذبية أكبر، لتوفير فرص الشغل، وتقليص الهوة بين الفقر والغنى، ووضع المواطن في صلب عملية التنمية، مع الحرص على تحصين التوازنات المالي`ة والاقتصادية الأساسية.
+ وأما التحدي الثاني، فيتعلق بقدرة المنطقة على التموقع داخل الخريطة الاقتصادية العالمية، الآنية والمستقبلية، عبر التحول إلى قطب إقليمي وازن، يتفاعل مع المحيط الدولي بنهج واحد، واستراتيجية مشتركة، قوامها الاندماج الإقليمي، الذي يتيح نسج شراكات التعاون المثمر، مع مختلف شركائنا عبر العالم.
حضرات السيدات والسادة،
وعيا منه بضرورة رفع هذين التحديين، فقد اختار المغرب، منذ ظهور البوادر الأولى للأزمة العالمية، التشبث بمواصلة مسيرته التنموية، المرتكزة على دعم النمو، وتكثيف الاستثمار، والمضي قدما في إنجاز المشاريع الكبرى، والإصلاحات الهيكلية، وتنويع اقتصاده.
وهو ما يتجلى في اعتماد استراتيجيات قطاعية مضبوطة، في الصناعة، والفلاحة، والسياحة، والطاقة، واللوجيستيك، والتكنولوجيات الجديدة، وتأهيل الموارد البشرية، عبر برامج إصلاح التعليم وتحديث التكوين، انسجاما مع متطلبات التنمية، وحاجيات المستثمرين، من مؤهلات وكفاءات بشرية عالية، وذلك في نطاق الحفاظ على سلامة منظومتنا المالية، والعناية بالقطاعات الاجتماعية والتشغيل، وتحصين القدرة الشرائية للمواطنين، ضمانا لدينامية الطلب الداخلي.
وقد أولينا أهمية خاصة أيضا لتحديث وتقوية البنى التحتية لبلدنا، من خلال إطلاق وإنجاز مشاريع هيكلية، نذكر منها على وجه الخصوص، المركب المينائي الكبير طنجة-المتوسط ; وذلك بهدف إعطاء دفعة قوية لمؤهلاتنا اللوجستيكية، والرفع من قدراتنا التنافسية.
كما عملنا، في إطار تصور مندمج، على الارتقاء بمناخ الأعمال، عبر إطلاق مشروع للخدمات المالية، بإحداث المركز المالي للدار البيضاء، ومناطق حرة للصناعة والتجارة والتصدير، بشروط تنافسية محفزة.
ومن منطلق حرصنا على المزاوجة الخلاقة بين تسريع وتيرة النمو، والحفاظ على التوازن البيئي، انخرطنا ف`ي سياسة إرادية طموحة في مجال النمو الأخضر ; حيث وجهنا الجهود الإصلاحية لبلادنا، إلى إدماج البعد البيئي في مختلف السياسات العمومية، والاستراتيجيات التنموية، وذلك من أجل تثمين الموارد الطبيعية، وتطوير الطاقات البديلة والمتجددة، ضمن منظور شامل، لتحقيق التنمية المستدامة.
وفي هذا الصدد، أطلقنا مشروعا كبيرا لإنتاج للطاقات النظيفة المتجددة، عبر استثمار مؤهلاتنا الطبيعية، من طاقة شمسية وريحية ; فاسحين المجال أمام شركائنا، للمساهمة في تحقيق هذه الاستراتيجية الطموحة.
وعلى صعيد شمولي، فإن المغرب ينخرط بقوة في المجهودات الدولية، الهادفة لرفع التحدي المصيري للتغيرات المناخية.
أما على مستوى دور بلادنا في تعزيز قدرات المنطقة على التموقع داخل الخريطة الاقتصادية العالمية، فإن المغرب، بوصفه بلدا منفتحا على العالم، وعضوا فاعلا في مختلف المنظمات الأممية، والمحافل الدولية، ما فتئ يجعل في صدارة اهتماماته تعزيز التعاون الدولي، والاندماج الإقليمي.
وفي هذا السياق، بادرت بلادنا للانخراط في العديد من المبادرات والاتفاقيات، ذات البعد الاندماجي، سواء في الفضاء الأورو-متوسطي، أو على الصعيد العربي.
وقد عملنا بتعاون م`ع أشقائنا في كل من مصر وتونس والأردن، على إعلان اتفاق "أكادير" سنة 2004، بهدف إنشاء منطقة واسعة للتجارة الحرة جنوب المتوسط.
ونغتنم فرصة انعقاد هذا المنتدى الهام، للتعبير عن رغبتنا الأكيدة في توسيع وتطوير هذا التكتل الاقتصادي الواعد، والاستفادة من ثراء التنوع السياسي والاقتصادي والاجتماعي، الذي تزخر به منطقتنا.
بيد أنه لا مناص من الاعتراف، بأن تحقيق الاندماج، الذي تصبو إليه شعوب المنطقة، ويمليه منطق العصر، يصطدم بمخططات هيمنية، وعقبات سياسية، عفا عنها الزمن بانتهاء الحرب الباردة، كما هو الشأن بالنسبة للاتحاد المغاربي، الذي يظل رهينة الحسابات الضيقة، بفعل النزاع المفتعل حول الصحراء المغربية.
وإيمانا منا بحتمية انتصار التوجه المستقبلي، على مخلفات الماضي، وبضرورة تجاوز الجمود، ومسايرة العالم في منطق التكتلات الاقتصادية، واستجابة لنداءات المنتظم الأممي، والمجتمع الدولي، بادرنا إلى تقديم مبادرة مقدامة لحل النزاع الإقليمي حول مغربية صحرائنا، من خلال مقترح الحكم الذاتي لأقاليمنا الجنوبية، في نطاق سيادة المملكة ووحدتها الوطنية والترابية.
وما فتئت هذه المبادرة تحظى بالمساندة المتزايدة للمجتمع الدولي، وبدعم مجلس الأمن، لجديتها ومصداقيتها، ولمراعاتها للمعايير الديمقراطية المتعارف عليها دوليا في هذا المجال. وكلنا أمل في أن ينتصر منطق العقل والحكمة، وتغليب المصلحة المشتركة، على الأوهام البائدة.
كما أن استمرار الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، لا يزيد الأوضاع إلا تفاقما، ويرهن طاقات المنطقة الهائلة، بل ويقف حجر عثرة أمام قدراتها على القيام بالدور الذي يناسب مؤهلاتها في تنمية الاقتصاد العالمي، والمساهمة بفعالية أكبر، في تخطي الظرفي`ة العصيبة، التي يمر منها العالم.
ولا يفوتنا بهذه المناسبة، التأكيد على أن طريق السلام في الشرق الأوسط يمر، وجوبا، عبر حل الدولتين، بما يضمن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة، وعاصمتها القدس الشريف، المتعايشة في أمن وسلام مع دولة إسرائيل، في ظل الشرعية الدولية، وعن طريق مفاوضات مباشرة لا يعيقها تعنت أو تصعيد، أو إجراءات أحادية غير مشروعة، من شأنه`ا تقويض المسار التفاوضي، وتبديد بارقة الأمل في السلام، والزج بالمنطقة في نفق مظلم.
ومن هذا المنبر، نوجه رسالة أمل وتعقل للتفاوض الجاد، استجابة للإرادة الدولية، باعتباره السبيل القويم لاستتباب الأمن لكافة شعوب المنطقة، وتجاوز مظاهر العنف والتطرف، التي تذكي حالة عدم الاستقرار، وتقلص فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية، وتقلل من وزن ومكانة منطقتنا في منظومة التعاون الدولي.
حضرات السيدات والسادة،
إن العالم يعيش اليوم، لحظة انتقال كبرى، من نظام عالمي بلغ منتهاه، وأثبت محدوديته، في مسايرة تطلعات البشرية، إلى نموذج جديد علينا أن نسعى جميعا إلى بنائه، بروح التحدي والوحدة والمسؤولية.
وما ظهور جغرافيا جديدة للنمو العالمي، تلعب فيه`ا البلدان الصاعدة دور القوة الدافعة لانتعاش الاقتصاد العالمي، إلا دليل داعم لهذا المسعى.
ومن ثم، فإن بناء عالم ما بعد الأزمة، يبقى وثيق الصلة باعتماد مقاربة تنسجم مع هذه المعطيات الجديدة، عمادها علاقات متوازنة، تقوم على المصالح المشتركة، وتؤسس لعولمة أكثر قدرة على استيعاب التنوع، وتعدد النماذج، في احترام للخصوصيات.
ومن هنا كان إطلاقنا في رسالتنا الموجهة للمؤتمر العالمي الثالث للسياسة، المنعقد منذ أسبوع بمدينة مراكش، لمفهوم التنوع البيولوجي للعولمة.
وإننا إذ نثمن عاليا الجهود التي تبذلونها، قصد ضمان التفاعل الأمثل للآراء، وتقريب وجهات النظر، فإننا واثقون بأنكم، بكفاءاتكم وخبراتكم المشهودة، ستساهمون، بعزم وقوة، في المسعى الكوني، الرامي إلى وضع خارطة طريق واضحة المعالم والأهداف، من أجل التعافي م`ن تداعيات الأزمة العالمية، وإرساء قواعد نظام اقتصادي عالمي جديد، أحسن حكامة في منظومته، وأقوى مناعة في وجه الأزمات، وأكثر إنصافا وتضامنا وإنسانية في توزيع ثمار النمو.
وختاما، فإننا نجدد الترحيب بكم بين ظهرانينا، منوهين بحسن تنظيم هذا الملتقى، متمنين لكم مقاما طيبا على أرض المغرب، بلد الحوار والانفتاح، وبمدينة مراكش الفيحاء، المشبعة بعبق التاريخ، وملتقى الحضارات والثقافات، حيث تنمحي الحدود، ويتقاسم الجميع نفس قيم التسامح والتعاون على بناء العيش المشترك.
وهي نفس الروح التي نسعى اليوم إلى أن تسود في منطقتنا كلها، بل وفي العال`م أجمع ; سائلين الله تعالى أن يكلل أعمالكم بالتوفيق والنجاح.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".