"الحمد لله وحده والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه
حضرات السيدات والسادة..
منذ ثلاث وخمسين سنة خلت كان لهذه المدينة السعيدة لقاء تاريخي مع جدنا جلالة الملك محمد الخامس رضوان الله عليه حيث اتخذ من مشرفها المطل على العالم منبرا للتذكير والتأكيد على الثوابت الراسخة للأمة المغربية تلكم الثوابت المتمثلة في استمرار السيادة الوطنية وتواصل الانتماء الديني والحضاري وقدسية الوحدة الترابية. وما احتفاوءنا اليوم بهذه الذكرى الخالدة إلا وقفة إجلال وتكريم وامتنان لروحه الطاهرة لما حققه - نور الله ضريحه - لشعبه الوفي من مكتسبات جليلة بفضل صموده وكفاحه من أجل الحفاظ للمغرب على هويته وعلى مقومات كيانه
إن في اختيار جلالته لمدينة طنجة ليصدع منها في تلك المرحلة الدقيقة بالحقوق الثابتة للمغرب أقوى دليل على ما لهذه المدينة من ميزة خاصة بوصفها قلعة إشعاع وصلة وصل بين باقي ربوع المملكة والعالم الخارجي إذ ما انفكت على توالي العصور تلعب دورا دوليا بارزا حتى أنها تحولت في بعض الحقب الى شبه عاصمة دبلوماسية للمغرب.
وذلكم كان شأنها في عهد سلفنا العظيم جلالة السلطان سيدي محمد بن عبد الله فمنها كان - خلد الله ذكره - يعلن عن أهم مواقف المملكة المغربية بصفتها انذاك قطبا من الاقطاب الفاعلة في العلاقات الدولية سواء كانت تلك المواقف تدخل ضمن اهتمامات جلالته الاقتصادية والتجارية أو تتصل باستتباب النظام الدولي السائد آنئذ والذي كان للمغرب فيه رأي لا يستغنى عنه. وهو الأمر الذي حدا بالولايات المتحدة الامريكية الى أن تبادر غداة استقلالها بتوجيه السيد توماس باركلي لربط العلاقات بينها وبين المغرب الدولة القطب في جنوب البحر الابيض المتوسط وذات التأثير البالغ لدى الامبراطورية العثمانية.
وقد استقبل القنصل الامريكي الاول بحفاوة خاصة من طرف جلالة السلطان سيدي محمد بن عبد الله. كما تم عقد اتفاقية سلام بين المغرب والولايات المتحدة الامريكية على غرار الاتفاقيات المبرمة بين هذه الدولة حديثة العهد بالاستقلال وكل من انجلترا وفرنسا وهولاندا. ثم توالت الاتصالات بالرسائل الخطية بين جدنا المعظم وأول رئيس للولايات المتحدة الامريكية فخامة السيد جورج واشنطن لتنسج بين البلدين روابط تعاون تجاري وسياسي لم تزل تشكل الى اليوم مرجعية للصداقة المغربية الامريكية تلكم الصداقة التي تربط خيوطها من جديد جدنا المنعم جلالة الملك محمد الخامس مع الرئيس فرانكلان ديلانو روزفيلت في بداية 1943 والتي وثق عراها والدنا المنعم جلالة الملك الحسن الثاني طيب الله ثراه مع كل الروءساء الذين تعاقبوا على دفة الحكم طيلة النصف الاخير من القرن المنتهي بدءا بالرئيس دوايت دايفيد إيزانهاور ووصولا الى الرئيس الحالي فخامة السيد وليام جيفرسون كلينتون. ومما لاشك فيه أن من أهم العوامل التي عززت التفاهم بين المغرب والولايات المتحدة تقاسمهما نفس القيم المتمثلة في تشبتهما بمبادىء الحرية والسلم والانفتاح على التعاون الدولي.
أيتها السيدات، أيها السادة
يطيب لنا أن نرحب بالشخصيات الامريكية المشاركة في هذه التظاهرة الواعدة والذين يساهمون معكم مشكورين في مجلس إعادة تأهيل المدينة التاريخية لطنجة. وإننا اذ نبارك مبادراتكم ونثمن أعمالكم وننوه بالتقاء الارادات الحسنة من المغرب وخارجه حول مشروع إحياء تراث المدينة العتيقة ليسعدنا أن نرى العمل الجمعوي قد غدا يستنهض الهمم ويستقطب النخب ويقتحم مجالات واسعة من النشاط التنموي كانت الى الامس القريب رهينة بما للدولة وحدها من امكانات لولوجها أو موقوفة على ما للادارة من استطاعة للقيام بأعبائها. فبروز هيئات المجتمع المدني للعمل في ميادين مختلفة إما بتصديها للمعضلات الاجتماعية كالفقر وتلوث البيئة وتفشي الامية أو بإشاعتها للحوار الجاد وتجذيرها للثقافة وتنافسها في فعل الخير وتباريها في خدمة الصالح العام لمما يثلج صدرنا ويطمئننا على مستقبل المغرب ونضج شعبه.
إننا عندما دشنا منذ سنتين حملات للتضامن لم نكن نسعى الى اجتثاث الفقر من جذوره - فهذا أمر لن يتأتى التغلب عليه إلا في المدى المتوسط - وإنما استهدفنا إذكاء شعلة البر في النفوس فكانت استجابة رعايانا الاوفياء في مستوى تطلعاتنا مما يدل على توقد هذه الفضيلة في وجدانهم وتوهجها في ضمائرهم فالمجتمع المغربي كان عبر تاريخنا المجيد مجتمعا أصيلا في تازره مترابطا باستمرار بعرى التكافل لا يتكل على الدولة إلا في ما هي منوطة به من أمن وعدل وحماية وتخطيط. أما الشأن المحلي فقد كان دائما من اختصاص السكان هم الذين يتولون تدبيره على مستوى الحي والمدينة والقرية والمدشر والقصبة والقبيلة يواجهون متطلباتهم ويقومون بتسيير أمورهم بأنفسهم.
ومن منطلق فضيلة التسيير الذاتي هاته جاء الدستور المغربي حريصا على دور الجماعات المحلية كموءسسة للتخطيط والتدبير في مجالات التنمية. غير انه مهما توفر لهذه الجماعات من وسائل للعمل فدورها لن يغني عما يمكن ان يقوم به المجتمع المدني من مبادرات لاسيما في مجال استقطاب الارادات الحسنة وتجنيدها للادلاء بدلوها في المجهود الوطني. فالاعتماد على الطاقة البشرية قبل غيرها قد اصبح هو السبيل الانجع لتحقيق التقدم المتوازن
أيتها السيدات، أيها السادة
لقد كان لوالدنا المنعم طيب الله ثراه الفضل في انشاء وكالة خاصة للانعاش والتنمية الاقتصادية والاجتماعية للعمالات والاقاليم الشمالية للمملكة وتحظى ولاية طنجة حاليا في هذا الاطار بعناية متميزة حيث رصد لها ما ينيف عن ستمائة وثلاثين مليون درهم لتمويل اربعين مشروعا هاما في القطاعات الاساسية كالسياحة والتعمير ومد الطرق والتزويد بالماء الصالح للشرب والكهرباء بما في ذلك ايصال الكهرباء الى الضواحي القروية وكذا الفلاحة والري والصيد البحري والصحة. كما رصدت اعتمادات هامة لاتمام تجهيز المناطق الصناعية بما فيها المنطقة الحرة للتصدير علاوة على الاعتناء بانعاش المقاولات الصغرى كرافد من الروافد الواعدة في مجال خلق مناصب جديدة للشغل.وتركيزا للدور المحوري الذي تقوم به مدينة طنجة ضمن شبكة التواصل والتبادل مع الخارج سيواصل العمل لاتمام الطريق السيار الرابط بينها وبين الدارالبيضاء بالاضافة الى تنفيذ مشروع الطريق الساحلي المتوسطي وانشاء المرسى الجديد.
وما هذه المشاريع الا جزء من كل لاننا عازمون على تمكين مدينة طنجة والمناطق الشمالية من القيام بالدور الذي نريده لها دور الواجهة المشعة والمزدهرة لمملكتنا السعيدة. وهذا ما حدا بنا الى زيارة هذه المناطق غداة تولينا امانة قيادة شعبنا الوفي تلكم الزيارة التي مكنتنا من الاطلاع على احوال السكان ومن حث نخبهم كي يشمروا على ساعد الجد ضامين ما لهم من قدرة على العمل والابتكار الى المجهود الذي تقوم به الدولة من اجل الاسراع بانعاش هذه المناطق ورفع معدل نموها الى المستوى الذي نرضاه لها.
ايتها السيدات والسادة
لقد اضحى من الثابت ان الطاقة البشرية غدت أهم رافع للتنمية وانها هي العامل الاساسي لتحريك الانتاج وخلق الثروة بفضل ما لها من قدرة على تحويل وتدبير الموارد الاخرى مادية كانت او فكرية. لذا فاننا نتفاءل كلما راينا مجموعة من رعايانا الاوفياء يسهمون بحظهم في اطار المجتمع المدني من اجل توسيع دائرة العمل الجمعوي. فمن هذا التوجه سنحيي فضيلة التكافل المتجذرة في السلوك الاجتماعي الاسلامي وهو التوجه الذي انطلقت منه بعض الامم المتقدمة في بداية نهضتها ومنها الولايات المتحدة الامريكية التي يشارك معكم شخصيات بارزة من نخبها للاسهام في مشروع اعادة تاهيل المدينة العتيقة لطنجة. ولقد وفقتم في اختيار موعد هذا اللقاء بتزامنه مع الذكرى الخالدة لزيارة جدنا المنعم جلالة الملك محمد الخامس اكرم الله مثواه لهذه الحاضرة للتأكيد على سيادة المغرب ووحدة ترابه.
ندعو الله تعالى أن يتوج اعمالكم ويحقق مساعيكم في هذا الاتجاه الذي من شأنه بلورة تلاقي الارادات الحسنة والفعاليات المنتجة من أجل ازدهار هذه المدينة لتظل ملتقى للحضارات ورمزا للتفاعل والتمازج بين الثقافات.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".