( تلاها المندوب السامي للتخطيط، السيد أحمد الحليمي علمي)
"الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
حضرات السيدات والسادة،
إنه لمن دواعي اعتزازنا أن يختار الاتحاد الدولي للدراسات العلمية للسكان، المغرب كأول بلد عربي وإفريقي، لاحتضان مؤتمركم السادس والعشرين للسكان، الذي يحظى برعايتنا السامية.
ونود الإشادة بتضمين جدول أعماله، عدة جلسات تهم المغرب والعالم العربي، الذي بحكم موقعه الجغرافي، وتباين أوضاعه الاجتماعية والاقتصادية، يشكل مرصدا متميزا للمراقبة، والتتبع والاستنتاج، في المجال الديموغرافي، وقضايا السكان، التي أصبحت في صلب الانشغالات العالمية.
وإننا لنتطلع، بكل اهتمام، لما ستتمخض عن مناقشاتكم القيمة، من نتائج، لتعزيز سياسات بلداننا في مجال التنمية البشرية، على أساس البحث العلمي والخبرة الميدانية، ومن منظور التحكم في المتغيرات الديموغرافية، الذي أضحى ضرورة وطنية ودولية.
وفي هذا الصدد، اتخذ المغرب، منذ منتصف الستينات، جملة من التدابير الاستباقية، التي أكسبته موقعا رياديا. وذلك بتحقيقه نجاحا كبيرا، في ضمان توازن النمو الديموغرافي، من جهة. ولاسيما من حيث مستوى مؤشر الخصوبة، ومعدل الحياة عند الولادة.
ومن جهة أخرى، فإن الوجه العكسي لهذا التقدم، قد تمثل في انخفاض معدل الخصوبة والإنجاب، الذي يفضي إلى تزايد شيخوخة الساكنة، بآثاره السلبية، الاقتصادية والاجتماعية، بما فيها ظهور فئة من المسنين المهمشين، تعاني من الهشاشة والعجز.
وبالرغم من التضامن الأسري، والتعاطف الاجتماعي، الذي ما زال يميز البلدان العربية والإفريقية، فإنه من الضروري تعزيز الأواصر التقليدية للتكافل بروابط حديثة ومؤسسية، لمواجهة آثار هذه الظاهرة، لاسيما من خلال العمل على توسيع التغطية الصحية، لتشمل كل الأشخاص في وضعية هشة، وذوي الاحتياجات الخاصة، وفي مقدمتهم العجزة.
إن من ثوابت سياستنا السكانية، إيماننا الراسخ بأنه من غير المجدي، الاعتماد فقط على تأثير العامل الديموغرافي، بمعزل عن سياقه الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي.
لذا، نحرص في المغرب، على نهج استراتيجية شمولية تقوم، وفق مقاربة تشاركية، على ثلاثة محاور رئيسية.
أولها: الاستثمار في البنيات التحتية، والقطاعات المنتجة، في مناخ تسوده الليبرالية والانفتاح.
وثانيها: محاربة الفقر والفوارق الاجتماعية. وذلك في إطار توزيع أفضل لثمار النمو، وتحسين ظروف العيش. ومن هنا، كان إطلاقنا للمبادرة الوطنية للتنمية البشرية، التي نعتبرها ورشا كبيرا مفتوحا باستمرار، ينسجم مع الأهداف الإنمائية للألفية.
وثالثها: القيام بإصلاحات سياسية ومجتمعية، تهدف إلى توسيع فضاءات المشاركة الديمقراطية، والنهوض بأوضاع المرأة، خاصة من خلال إقرار مدونة الأسرة، التي تعد رائدة في مجال المساواة القانونية بين النساء والرجال، وضمان حقوق الطفل.
حضرات السيدات والسادة،
إن توجيه السياسات السكانية، لا يمكن أن يغفل اليوم، في سياق مطبوع بأزمة اقتصادية ومالية غير مسبوقة، المتغيرات المناخية، التي يجب إيلاؤها ما تستحقه من اعتبار، في كل التوقعات الاقتصادية والسكانية، وهي عوامل تشغل بال البشرية جمعاء، حيث هزت النظرة المتفائلة للتقدم المطرد، الذي طالما روج له النموذج الاقتصادي الدولي السائد.
فالعالم لم يفتأ يزداد وعيا، ليس فقط بندرة موارد الأرض، الآخذة في التناقص، وبالتالي في العجز عن تلبية حاجيات سكان المعمور، على المدى الطويل ؛ وإنما أيضا بالمخاطر الكبيرة، الناتجة عن عولمة كاسحة، وعن تدهور اقتصاد سوق غير مضبوط، بالنسبة لمستوى عيش السكان ورفاهيتهم.
لقد أصبحت الأزمة العالمية تهدد التقدم، الذي تم إحرازه في مجال التنمية البشرية. ولعل أثرها الحالي والمستقبلي، ستتحكم في تحديده أساسا الاعتبارات السكانية. ومن هنا، تبرز أهمية العامل الديموغرافي، الذي يتعين أن يكون بمثابة بوصلة لوضع السياسات العمومية.
بيد أن الدراسات الديموغرافية، والمؤشرات الاقتصادية، تلتقي في تسليط الضوء على حقيقة بالغة الأهمية : وهي تفاقم حدة الفوارق التي تطبع عالمنا. فوارق ليست بين شمال الكرة الأرضية وجنوبها فحسب، بل وداخل البلد الواحد، مما يبرز الحاجة إلى تنمية بشرية مستدامة، يكون هدفها المحوري، هو تقليص تلك الفوارق، من خلال محاربة الفقر، وضمان الصحة والتعليم، على وجه الخصوص، مع إيلاء عناية خاصة للبعد الإيكولوجي.
وفي هذا السياق، فقد غدت التغيرات المناخية بدورها تثير شتى المخاوف، بشأن اتساع رقعة الفقر عبر العالم، ذلك أن التطور المتوقع لبيئة الأرض، سيسهم في إحداث تغيرات تدريجية لجغرافية المجال الفلاحي، يهدد الأمن الغذائي، خاصة بالنسبة للدول التي تسجل معدلات مرتفعة للفقر.
إن تغير المناخ يطرح نفسه كظاهرة تتطلب معالجتها ابتداع حلول جديدة، وانتهاج سياسات طموحة، وإزالة ما يعتري توزيع الإنتاج الفلاحي، من تفاوتات صارخة بين دول الشمال والجنوب.
ومن هنا، فإن قضايا الأمن الغذائي، والتصحر واستنزاف الأراضي الفلاحية، وارتفاع مستوى مياه البحار، تسائل بإلحاح، الديموغرافيين للتداول بشأن الحلول الكفيلة بمواجهة تداعياتها، وفي مقدمتها معضلة حركات الهجرة، المنذرة باتخاذ أشكال وأبعاد أشد خطورة مما هي عليه حاليا.
وإن المغرب لمعني بالدرجة الأولى، بقضايا الهجرة، باعتباره نقطة للتلاقي بين الشمال والجنوب.
ولمواجهة الضغوط الناجمة عن حركات الهجرة، ما فتئنا نبلور مع شركائنا في الجوار الأورو - المتوسطي، الاستراتيجيات الواجب وضعها، لضبط هذه الظاهرة.
حضرات السيدات والسادة،
إن لنا في الكفاءات العالية، التي يتمتع بها الخبراء المشاركون في هذا المؤتمر الهام، وتنوع تخصصاتهم ومشاربهم العلمية، لضمانة حقيقية لنجاح هذا الملتقى العلمي الكبير، والإحاطة بمختلف الجوانب المتعلقة بقضايا السكان.
وإننا لنتطلع إلى أن تشكل التوصيات والقرارات التي ستتخذونها، خارطة طريق مضبوطة، لإيجاد حلول ذات بعد كوني للقضايا المطروحة، تساعد صناع القرار، على بلورة السياسات العمومية.
وختاما، لا يفوتنا التنويه بالجهود الدؤوبة التي بذلها المنظمون، لتوفير شروط النجاح لهذه التظاهرة العلمية الكبرى، ولاسيما منهم المندوب السامي للتخطيط، وما أبانوا عنه، من احترافية ومسؤولية في تنظيم هذا الملتقى الدولي الهام.
وإذ نرحب بجميع ضيوف المغرب الكرام، متمنين لهم مقاما طيبا بمراكش الحمراء، ملتقى الحوار بين الثقافات والحضارات، لنسأل الله عز وجل أن يكلل أعمالكم بالسداد والتوفيق.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".