وجه صاحب الجلالة الملك محمد السادس رسالة سامية للمشاركين اليوم السبت في لقاءات فاس حول المقدس والحداثة المنظمة في إطار مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة .
وفي ما يلي نص الرسالة الملكية السامية التي تلاها السيد محمد معتصم مستشار جلالة الملك.
"الحمد لله، والصلاة والسلام على مولانا رسول الله وآله وصحبه.
أصحاب الفضيلة والسعادة ،
حضـرات السيدات والسادة،
يطيب لنا أن نتوجه إلى هذا الملتقى الهام، الذي يلتئم في إطار مهرجان الموسيقى الروحية العالمية، ضمن لقاءاته الفكرية القيمة. وذلك لنعرب لكم عن إشادتنا بنبل الأهداف، التي تجمعكم، في سياق الحوار، المتجدد والموصول، حول تعايش الثقافات، وحوار الحضارات، وتآخي الأديان السماوية وإشاعة القيم الروحية، التي نتقاسمها، على السواء.
وغير خاف عليكم، أن رمزية المكان، الذي تلتقون فيه، وعبق التاريخ العريق، الذي ينشر شذاه، في رحاب مدينة فاس، وهي تستعد للاحتفال، بذكرى مرور إثني عشر قرنا على تأسيسها، تضفي على ملتقاكم طابعاً فريداً، لما تمثله من تمازج بين المقدس والحديث،في لوحة متناغمة الألوان، وسمفونية متناسقة الألحان، من أجل السلام والوئام. هذه العاصمة الروحية للمغرب، التي قيل فيها بحق "إن العلم ينبع من صدور أهلها، كما ينبع الماء من عيونها".
لذلكم، لم يكن احتضان هذه المدينة، الأثيرة لدى جلالتنا، لمهرجانات الموسيقى العالمية الروحية مجرد مصادفة. فالموسيقى كانت وما تزال، لا تسمو بأنغامها، إلا فيالفضاء الذي يتاح فيه للإنسان، أن يتجرد من ماديته، بأجنحة الإيمان، وعشق المطلق، ليعيش أعمق خصوصياته، التي حباه الله بها، وهي روحانيته. كما أنها تعد أبلغ لغة للتعبير عنها، وأقدرها على توحيد بني الإنسان. فالموسيقى تخاطب في الإنسان روحه ووجدانه وإحساسه. لأنها مشتقة من طبيعته القائمة على التناسق والتناسب، كما قال الحكماء.
والموسيقى الروحية خير تعبير عن "المقدس"، الذي ما فتئ يوحد مشاعر الإنسان، ولاسيما حين يسمو به عن نزوعات التعصب والانغلاق، ويتعالى به عن أسباب النفور والشقاق. وهي نفس المقاصد، التي تقوم عليها الحداثة في قيمها الكونية، والتي لا تسعى إلا لتحقيق الانسجام والوفاق، عن طريق الاسترشاد بالعقل، وإشاعة الحرية والعدل، وتكريم الإنسان.
فكما أن الحرية، واحدة في معناها، والعدالة واحدة في مبناها، فكذلك يجب أن تكون الحداثة، واحدة في آلياتها وأهدافها، وفرصة لتجاوز التفاوت والتمييز بين البشر، حيثما كانوا. وهنا تلتقي الحداثة بالمقدس. فالمقدس حداثة عريقة، والحداثة مقدس معاصر. والحداثة بدون مقدس قد تصير المقدس الأوحد عديم الروح.وفي الحداثة والمقدس يصغي فيها العقل، لصوت السماء. وقد أكد فلاسفة الإسلام، أن الدين حق، والفلسفة حق، والحق لا يعارض الحق. كما مجد القرآن الحكمة التي هي لب الفلسفة. فقال تعالى: "ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا". وليست الحكمة إلا منطق العقل، والانفتاح على الإيمان، ونبذ كل ما يتعارض مع تحكيم العقل.
فالإسلام دين العقل والحكمة. وقد حفل القرآن الكريم بمخاطبة العقل والتنويه به، وبالبراهين الاستدلالية على حقائق الكون، والتوجه لذوي العقول والألباب، مصداقا لقوله تعالى "إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآياتٍ لأولي الألباب"، وقوله عز وجل "وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون".صدق الله العظيم.
ومن هذا المنطلق، فإن التمسك بالمقدس لا يعني الانغلاق أو التحجر، مثلما أن الأخذ بالحداثة لا يعني الاستلاب أو الاغتراب. وبالنظر للعلاقة ،التي ينبغي أن تربط بين المقدس والحداثة، فإن المقدس بـدون تفاعله مع الحداثة، يبقى كالجسد المحنط. كما أن الحداثة بدون قيامها على المقدس تظل عديمة الروح. مما يجعل منهما مفهومين متكاملين، غير متناقضين. وذلكم جوهر هذا الملتقى، الذي يحمل رسالة أمل وتعقل وإخاء للإنسانية جمعاء.
فجدير بالإنسان أن يستلهم من هذه القيم، النزوع إلى التعايش والتآلف، والتمازج بين المجتمعات الإنسانية. وأن يجعل من قيم أدياننا وثقافاتنا، منظومة متناسقة، تؤلف بين خصوصياتنا وعالميتنا، في آن واحد.
حضرات السيدات والسادة،
لقد ظل المغرب على امتداد العصور، بفضل تمسكه بالإسلام الوسطي المعتدل، الموحد بين منطق العقل ونور الإيمان، ملتقى للحضارات والثقافات. إذ كان ينتقي منها ما يلائم شخصيته، ويتناسب مع الحضارات المتوسطية والإفريقية المجاورة. فأبدع ثقافة يمتزج فيها العقل والدين، المادي والروحاني، المقدس والحديث. وبذلكم جسد المغاربة نموذجاً حضاريا، يجمع بين الأصالة والانفتاح، واعتماد العلم والحكمة والتجريب في حياتهم. فقدسـوا العلم والعلماء، وأنشأوا المدارس ومعاهد العلم، على مر الأزمان.
ومنذ القرن السابع الهجري (الثاني عشر الميلادي)، أصبحت جامعة القرويين بفاس، أول جامعة في الغرب الإسلامي. فغدت مناراً يشع بالعلـوم، وتبادل ثمرات العقول بين الشرق والغرب. وهوت إليها أفئدة وعقول النابهين. فوفد عليها طلاب، من مختلف الأجناس والأديان، لينهلوا من المعارف الكونية، التي كانت تنفتح عليها. ويذكر التاريخ أن البابا سلفستر الثاني، جيربير دورياك، شهد حلقات الدرس فيها. كما نهل من معارفها الإسلامية أيضا، الفيلسوف اليهودي الشهير موسى بن ميمون، حيث أقام بفاس وألف بها أشهر كتبه، مستفيداً من المركز العلمي للثقافة التلمودية، الذي كان يعد الأشهر من نوعه في الغرب الإسلامي. فضلا عن ابن خلدون، الذي كان من فطاحل أعلامها.
لقد عرف المغرب على مر العصور، حياة علمية راقية، كان من أعلامها النوابغ: ابن رشد وابن خلدون وابن طفيل، ممن كان تراثهم بمثابة بذور عصر الأنوار في أوروبا، في مزج خلاق بين التشبث بمعتقداتهم، والانفتاح على علوم اليونان. كما يشهد بذلك الدارسون الغربيون، أمثال المستشرق الفرنسي الكبير إرنست رينان. وهو ما جعل فاس القرويين والعلوم والبدائع، هي فاس الاستكشاف والبناء والصنائع. وهو ما جعل جاك بيرك ولوي ماسينيون، كالعديد من المفكرين المرموقين، يتعلقون بها تعلقا شديدا، باعتبارها السبيل الذي يؤدي إلى معرفة الآخر.
وهذا الرصيد الغني، هو الذي كرس مكانة المغرب كفضاء لتلاقي الثقافات، وجسر لتعايشها وتلاقحها، وبوتقة حضارية، يمتزج فيها عطاء العقل وإبداعه، وتجارب الروح، في البحث عن معانقة المقدس. فلا غرو إذن، أن يظل هذا الإرث الحضاري، منبعا للقيم المثلى، التي يتعلق بها المغاربة على مر العصور، ويأخذون على عاتقهم، بنفس الانفتاح وروح التسامح، نسج علاقاتهم مع العالم المحيط بهم، ولاسيما مع جيرانهم.
وهو ما جسده، بكل عبقرية واقتدار، باني المغرب الحديث، والدنا المنعم، جلالة الملك الحسن الثاني، أكرم الله مثواه، الذي عرف كيف يجمع بين المقدس والحداثة، إلىحد التماهي بينهما، مرسخا بذلك الهوية المغربية الموحدة، الغنية بتعدد روافدها، في انفتاح على مستجدات العصر.
وسيرا على هذا النهج القويم، ينخرط المغرب بقيادتنا اليوم، في الاضطلاع بهذه الرسالة النبيلة، الهادفة إلى فسح المجال رحبا، أمام التكامل البناء، والانسجام الوثيق، بين القداسة والحداثة، وتبديد الأفكار المنغلقة والمغلوطة، القائمة على افتراض التناقض بينهما، والإسهام في جعل منطقتنا، كما كانت في الماضي، ملتقى للتواصل والتبادل بين الشرق والغرب.
وفي هذا السياق، ما فتئنا نعمل على جعل المغرب نموذجا لمجتمع يقوم على ترسيخ حقوق الإنسان، ودعم دولة القانون والمؤسسات، واعتماد التنمية البشرية المستدامة والإدماجية، والمواطنة الكاملة، كمنهج راسخ في بناء مجتمعنا الديمقراطي، آخذين بقيم الحداثة، ومزايا العولمة المتشبعة بالروح الإنسانية، مع الحفاظ على تراثنا الحضاري، عاملين من أجل انبثاق فضاء مغاربي ومتوسطي، يسوده السلام والوئام.
حضرات السيدات والسادة،
في عالم يعاني من اهتزاز المرجعيات، بل وفقدانها، وتتعرض فيه القيم الدينية والإنسانية، للتبخيس والتحريف، بفعل نزوعات التعصب والتطرف، والعنف والإرهاب، والترويج للأفكار المغالطة، عن صدام الحضارات، فإن جميع القوى الدولية والفعاليات،الفكرية والفنية والإعلامية المتنورة، مسؤولة عن التصدي للمخاطر التي تهدد السلم والأمن والاستقرار الجهوي والعالمي.
ولن يتأتى ذلك، إلا باعتماد استراتيجيات، وطنية وجهوية ودولية متناسقة.
استراتيجيات تتجاوز الطروحات النمطية والأحادية، التي أفرزتها العولمة الشرسة والكاسحة، مع الالتزام باحترام التعدد الثقافي، والحق في الاختلاف، ومراعاة الخصوصيات والثوابت الوطنية. وذلك في تشبث بالقيم الكونية السامية، التي تدعو إليها كل التعاليم السماوية السمحة، والحضارات الإنسانية، من حرية ومساواة وإخاء، وعدل وتضامن وسلام، وتسامح وتعايش ووئام، ونهج للديمقراطية الحقة، التي نحن بها ملتزمون.
وإن ملتقاكم اليوم، في مدينة فاس العريقة، التي يصدح فيها عزف الألحان الروحية العالمية، معبرة عن كل ما سلف من معان مقدسة وحداثية، لخير دليل على تشبعكم بنفس القيم المثلى، والتزامكم بإشاعتها.
ويطيب لنا في الختام، أن نجدد الإعراب عن تنويهنا بمنظمي هذا المهرجان،وفي مقدمتهم مؤسسه برعاية ملكية موصولة، خديمنا الأرضى السيد محمد القباج ، مشيدين بما يتحلى وفريق المؤسسة به من غيرة وطنية صادقة، وبالمسؤولين والسلطات العمومية، والإدارة الترابية وعلى رأسهم والي جلالتنا على جهة فاس بولمان، وكافة الراعين لهذا الملتقى، مشكورين على ما بذلوه، من جهود محمودة من أجل إشعاعه. وكذا بالجمهورذي الحس المرهف، والذوق الرفيع، الذي يتابع فعالياته، وكل مواطنينا الأعزاء بهذه المدينة التاريخية. مما جعل من هذا الملتقى منارة مشعة بفاس العراقة والحداثة.
وإننا لنرحب بكل ضيوفنا الكبار، وبالمبدعين والمفكرين المرموقين، والوافدين الكرام، على هذا المهرجان العالمي، أجمل ترحيب، بالمملكة المغربية، متمنين لهم طيب المقام، بمدينة فاس العريقة، التي ينسجم فيها روح المكان مع عبير الزمان، ويتكامل فيها المقدس والمعيش اليومي.
وفقكم الله، وبارك مسعاكم، وكلل أعمالكم بالتوفيق والسداد.
والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته".